د. يوسف عبدالحق
تؤكد الدراسات التنموية على أن مساعدات الدول الرأسمالية للدول النامية طيلة النصف الثاني من القرن الماضي كانت نتائجها هامشية حيث أن التطور في الدول النامية الأقل استلاما للمساعدات كان أفضل وأعمق منه في الدول الأكثر استلاما للمساعدات. يعود ذلك إلى عدة عوامل أهمها أولا: توجيه الدول الرأسمالية للمساعدات لأغراض غير تنموية: سياسية، استهلاكية وأمنية، وثانيا فساد الحكم في الدول النامية المتلقية للمساعدات والذي عملت سياسة الدول المانحة على تجاهله بل وتعميقه، والعامل الثالث سيكولوجي سلوكي اجتماعي يتمثل في أن من تتدفق عليه المساعدات بسهوله يندفع في إنفاقها على الاستهلاك الباذخ للحكم فقد قيل في المثل الشعبي العربي " مال تأتي به الرياح تأخذه الزوابع"
بلغ معدل المساعدات في فلسطين خلال الفترة 1994- 2001 حوالي 486 مليون دولارا سنويا أي أكثر من 11% من متوسط الناتج المحلى الإجمالي الفلسطيني، وارتفعت قيمتها عام 2002 إلى حوالي 600 مليون دولار، تقدر حاجة السلطة من المساعدات هذا العام بحوالي 1400 مليون دولار وصل منها حتى حزيران الماضي حوالي 350 مليون دولار ويتوقع ان تستلم السلطة خلال تموز الحالي حوالي 300 مليون دولار. من حيث الرقم المجرد تعتبر هذه المساعدات كبيرة جدا ولكنها من حيث التأثير التنموي كانت جد هامشية وفق التحليل الموضوعي.
- بداية حدد المانحون أن الهدف من المساعدات دعم عملية تسوية أوسلو المبددة للحقوق الفلسطينية، فقد كانت عبارة عن رشوة جماعية للفلسطينيين تمكن الاحتلال الإسرائيلي تحت ستارها أن يقزم الحقوق الفلسطينية إلى مجرد علم ونشيد وأبهة حكم مظهرية فارغة.
- أولويات هذه المساعدات كما حددتها الدول المانحة كانت بعيدة إن لم نقل متناقضة مع أولويات الاقتصاد الفلسطيني، فالقطاع الزراعي هو الأولى فلسطينيا ومع ذلك كانت حصته أقل من 1% فقط، بل إن حصة قطاعات الإنتاج المباشر جميعها لم تتجاوز 10% فقط، في حين حصل النشاط الأمني لحماية الاحتلال الإسرائيلي على حوالي 40% وفي بعض السنوات أكثر من 50%
- استرد المانحون حوالي ربع المساعدات على شكل مساعدات فنية هي في معظمها صناعة كلامية للترفيه وسياحة المؤتمرات
- يلاحظ أن الاقتصاد الإسرائيلي هو المستفيد الأكبر من هذه المساعدات من خلال عمولات التحويل التي يحصلها النظام المصرفي الإسرائيلي بحكم أنها مشروطة بالمرور عبره، وكذلك من خلال أن نسبة كبيرة منها تصرف على سلع وخدمات إسرائيلية حيث تشكل مستوردات الاقتصاد الفلسطيني من الاقتصاد الإسرائيلي في المتوسط حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي، وتشير بعض التقديرات أن حوالي ثلث هذه المساعدات تذهب أرباحا للاقتصاد الإسرائيلي . هذا بالإضافة إلى التدمير الشامل لكل شيء في الأراضي الفلسطينية المحتلة بدءا من الاجتياح الإسرائيلي للضفة عام 2002 وليس انتهاء بالمحرقة الصهيونية لغزة نهاية عام 2008 وهو تدمير قدرت تكاليفه في كلا الحالتين بضعف المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية.
- استخدمت المساعدات لخلق تيار من المنتفعين التابعين في قطاع المؤسسات الأهلية الفلسطينية التي حصلت على أكثر من 60 مليون دولار سنويا منها حوالي 60% أحور ونفقات إدارية.
- اعتمد المانحون القطاع الخاص كقاعدة أساسية لتنمية الرفاه ، وتشير الأرقام التي نشرت عن شهر العسل في المساعدات للسنوات 97=99 إلى أن تكلفة فرصة العمل بلغت في هذا القطاع خلال الفترة المذكورة حوالي 100 ألف دولار وهي خمسة أضعاف التكلفة المقدرة من البنك الدولي، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على تبديد المساعدات من خلال التلاعب وحرمنة العمولات من جهة ومن جهة أخرى من خلال استخدامها في مشاريع كبيرة ذات كثافة رأسمال عالية.
- كان الفساد ينمو ويترعرع والدول المانحة والإسرائيليون ليس فقط فرحين بذلك بل ومشجعين وداعمين له بهدف خلق فئة في الحكم الفلسطيني ترتبط مصالحها بل ووجودها بسياساتهم الهادفة لتبديد الحقوق الفلسطينية، والمحزن أنهم نجحوا في ذلك على حد كبير.
- وحين كان يستيقظ الموقف الفلسطيني أحيانا دفاعا عن حقوقه كان المانحون يعاقبونه بوقف هذه المساعدات كما حدث حين قرر الكونغرس الأمريكي وقف المساعدات للسلطة الفلسطينية أيام عرفات.
- كما أنه حين كانت الضغوط الوطنية الفلسطينية تفلح أحيانا في مطالبها بعدالة التوزيع كان المانحون يهددون متوعدين ومطالبين بضرورة حرمان كل جهة وطنية من هذه المنح بحجة أكذوبة الإرهاب وكانوا غالبا ما ينجحون.
- وبصرف النظر عن أخطاء حماس التي لا يمكن نكرانها في عملها السياسي بخصوص حسمها العسكري في غزة، فإن المانحين فرضوا حصارا ماليا مشينا لمجرد فوز حماس في الانتخابات مما يؤكد أن هذه المساعدات ليست سوى ثمن يدفع للفلسطينيين مقابل موقفهم السياسي بقبول التسوية وفق الرؤية الصهيونية الامبريالية.
- ولكن الأنكى من كل ذلك أن السياسة الاقتصادية المالية الفلسطينية تساوقت مع نهج المانحين المذكور، فق طاب لها منذ البداية الاتكال على المساعدات والمنح والقروض لتمويل أوهام خرافية للتنمية المرفهة تحت الاحتلال وذلك بديلا للتنمية من أجل الصمود، ولذلك نجد أن العجز في الموازنة الجارية الفلسطينية بلغ في المتوسط 50 مليون دولار خلال الفترة 94- 99 وهو يرتفع الآن لعام 2009 إلى حوالي 1.15 مليار دولار هذا إضافة إلى الموازنة الاستثمارية التي تمول بالكامل من المانحين وتبلغ حوالي نصف مليار دولار ناهيك عن الديون التي تبلغ حاليا أكثر من مليار دولار.
باختصار يمكن بسهولة الاستنتاج أن صانعي القرار في السلطة الفلسطينية في رام الله يسيرون في طريق رهن الشعب والوطن إلى الأبد لحلف الاحتلال والمانحين علموا بذلك أم لم يعلموا، ذلك أن أي تفكير في تنمية الرفاه تحت الاحتلال تعني ببساطة تكريس الاحتلال، ومن يريد حقوقه في الاستقلال وضمان حق العودة عليه أن يدير ماليته واقتصاده بموارده الذاتية مدخرا حقوقه المالية التي نهبها التحالف الصهيوني الامبريالي طيلة أكثر من 61 عاما إلى حين تحقيق الاستقلال وضمان حق العودة، إذ لا يعقل بداهة أن يقدم عدوك الدعم المالي لك لتتمكن من الإفلات منه، هذا هو الهرطقة بعينها.
كتبت في 14/7/2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق