السبت، 5 سبتمبر 2009

بيت لحم بين مؤتمر التثمير ومنتجع التطبيع

د.يوسف عبدالحق




بداية لا احد يظن أن هناك عاقل في هذا الوطن لا بل حتى مجنون لا يرغب بقوة متناهية في حشد الاستثمار الفلسطيني والعربي والدولي الصديق لتطوير الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال، المشكل الحقيقي لا يكمن في حشد الاستثمارت وإنما يكمن في السؤال التالي " أي استثمار نريد؟؟؟ "
وفي هذا الخصوص اتجهت سياسة الاستثمار الفلسطيني منذ اليوم الأول للسلطة الفلسطينية نحو اقتصاد الرفاهية حيث وبدون الدخول في التفاصيل اعتمدت هذه السياسة منذ البداية الاقتصاد الرأسمالي القائم على تعظيم الربح منهجا للنشاط الاقتصادية الفلسطيني وبالتالي تم تسليم الاقتصاد الفلسطيني لهوامير المال الفلسطينية الذين تعاونوا بشكل أو بآخر مع رأسمال الاسرائيلي والعالمي بل وشكلوا أحيانا جسرا للربط بين رأس المال الصهيوني وبين رأسمال الدولي والعربي، ولعل أبرز مثال على ذلك المشاريع التي تبناها مركز بيرس للسلام.

و بفعل التحفيزات الضريبة التي وردت في قانون تشجيع الاستثمار الذي ركز على المشاريع الكبيرة اتجهت معظم الاستثمارات الجديدة نحو المشاريع الخدمية الكبيرة كمشاريع الفندقة والسياحة مع استنثناءات قليلة في الصناعة، وأكبر مثال على ذلك المشاريع السياحية الكبيرة التي تمت إقامتها في مشروع بيت لخم 2000.

كانت نتيجة هذا النهج أنه تم تهميش القطاع الزراعي بحيث لم تتجاوز مساهمته في الناتج القومي الاجمالي قبيل الانتفاضة الحالية حوالي 10% فقط في حين كان يساهم في ظل الاحتلال الاسرائيلي قبل وجود السلطة في المتوسط بحوالي 30% . كذلك تراجعت بشكل كبير الصناعات المنوسطة والصغيرة والحرفية بفعل سياسة السوق المفتوحة باتجاه واحد التي فرضتها اتفاقيات أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي وأوضح مثال على ذلك صناعة الأحذية والجلود.

جاء الاجتياح الاسرائيلي الذي بدأ مع اقتحام شارون للمسجد الأقصى في نهاية عام 2000 ليعلن اقتصاديا أن الاقتصاد الفلسطيني لا يمكنه تحقيق الصمود الاقتصادي بالمنهج الاقتصادي الرأسمالي وعلى أساس المشاريع الكبيرة القائمة على التنافس مع الصناعات الاسرائيلية والعالمية المتفوقة عليها تقنيا وماليا واستفرارا سياسيا واجتماعيا. ففي غياب الاستقرار السياسي تم خلال الاجتياحات الاسرائيلية المتوحشة والمنكررة تدمير البنية التحتية وكذلك تدمير المشاريع الكبيرة إما ماديا أو من خلال تعطيل حركة عمالها وكذلك حركة المخلات والمخرجات فيها بحيث تدنت ساعات عمل هذه المشاريع في المتوسط إلى ما لا يزيد عن 40% من طاقاتها، وبالتالي بات المطلوب الابتعاد عن المشريع الكبيرة باعتبار أنه كلما كبر حجم المشروع كلما زاد تأثره بالسياسة الاسرئيلية والعكس صحيح بمعنى أنه كلما صغر حجم المشروع قل تأثره بالسياسة الاسرائيلية، وقد أكد ذلك د. فضل النقيب في دراسنه عن الاقتصاد الفلسطيني عام 2004 حين قال أن المطلوب لصمود الاقتصاد الفلسطيني ليس فقط المشاريع الصغيرة بل المشاريع الصغيرة جدا(mini-microeconomic projects) أي بلغة شعبية " المشاريع الزغنونة" .


وبالرغم من هذا الحسم الاقتصادي الواقعي والنظري لصالح منهج اقتصاد الصمود وضد منهج الاقتصاد الرأسمالي للمشاريع الكبيرة، نجد أنفسنا أمام ما سمي
" مؤتمر بيت لحم الاستثماري" الذي تجاهل بفجاجة منقطعة النظير كل الدروس السابقة ، فهو أولا جاء بناء على تنسيق قديم جديد مسبق مع القطاع الخاص الاسرائيلي، فالبداية كانت في اجتماع مشترك بين القطاعين الخاصين الاسرائيلي والفلسطيني حضره وزير الاقتصاد الفلسطيني الأسبق ومدير عام وزارة التجارة الاسرائيلية على هامش مؤتمر لندن لدعم السلطة الفلسطينية في بداية 2005 والذي نتج عنه بيان مشترك دعى إلى تشجيع المشاريع المشتركة بين القطاعين الخاصين الفلسطيني والاسرائيلي وأيد فكرة عقد مؤتم استثماري في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، أي أن التطبيع كان معدا له مسبقا، وبالفعل حضر المؤتمر28 رجل أعمال اسرائيلي من بينهم افرايم سنيه الذي حكم الضفة الغربية مياشرة خلال ثمانينات الفرن الماضي قبل قدوم السلطة الفلسطينية.

قد يقول البعض أن 28 اسرائيلي من حوالي 1400 مستثمر فلسطيني وعربي ودولي هو عدد هامشي لا وزن له كما ادعى ببراءة غير بريئة بعض المحاضرين الذين شاركتهم في الندوة التي عقدها مركز حواء في نابلس بتاريخ 9/6/2008، أظن أن الجميع بات يدرك اليوم الحقيقة التاريخية في السياسة الامبريالية الاسرائيلية والعالمية أن الفعل لم يعد بالعدد بقدر ما يكون بالقدرة الكامنة في هذا العدد ، وعليه فإنه إذا اخذنا في الاعتبار أن حوالي 5 مليون صهيوني في الاقتصاد الاسرائيلي يهيمنون اليوم على أكثر من 320 مليون عربي بل وأكثر من مليار ونصف مسلم لأدركنا أن الوزن النسبي للفرد الاسرائيلي في المتوسط يعادل حوالي 60 عربي وحوالي 300مسلم، وهذا يعتي أن السياسة الاسرائيلية كانت حاضرة بقوة تصل حوالي 60% على الأقل من فوة المؤتمر بأكمله.

اعتمد المؤتمر منذ اللحظة الأولى للتحضير له على الاستثمار في المشاريع الكبيرة وكان نصيب الزراعة من المشاريع التي قدمتها اللجنة التحضيرية للمؤتمر هي حوالي 33مليون دولار أي أقل من 1.7% فقط من إجمالي حجم الاستثمار المقدم من هذه اللجنة للمؤتمر والبالغ 2 مليار دولار، وهي نسبة أقل حتى مما خصصه برنامج التطوير والاصلاح للسلطة الفلسطينية للفترة 2008- 2010 والبالغة 3% فقط من إجمالي حجم الاستثمار في البرنامج والبالغ 1.6مليار دولار. هل يعقل أن تمثل هذه الأرقام سياسة استثمارية رشيدة لاقتصاد الصمود الفلسطيني الذي يشكل سكان الريف أكثر من نصف عدد سكانه؟؟؟؟ بل هل يصدق سكان المريخ وهم يقرأون هذه الأرقام أن جوهر الصراع الفلسطيني الصهيوني هو الأرض ؟؟؟

ليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، إذ أن مشروع الاسثمارات الزراعية المقدمة موزعة على 8 مشاريع فقط بواقع 4 مليون دولار للمشروع ، إن هذا يعني أن هذه الاستثمارات الزراعية سيستحوذ عليها ما لا يزيد عن 40 شخص فقط من أصل على الأقل 120 ألف مشتغل في الزراعة ما بين مالك وعامل، وبمعنى آخر فإن هذا النمط من الاستثمار إذا ما طبق سيؤدي إلى تعظيم ثراء الثري وفقر الفقير وهو بالطبع ما هو مطلوب للصمود الاقتصادي.
والأدهى من كل ذلك أن اللجنة التحضيرية للمؤتمر قدرت تكلفة فرصة العمل الاستثمارية في مشاريع المؤتمربمبلغ 40 الف دولار ، يبدو أن من قرر ذلك لا علاقة له البتة ليس فقط بمحنة الفقر التي يعيشها حوالي 75% من شعبنا ولا أيضا بالمناطق المنكوبة من البلاد وهي تشمل معظم الأراضي الفلسطينية التي لو توفر لأي أسرة فيها مكونة من 6 مبلغ 10 آلاف دولار لتمكنت قطعا من إنشاء مشروعها الخاص الذي يدر لها دخلا معقول يوفر لها معيسة كريمة.

بعض من شاركته في الندوة المذكورة أعلاه تحدث ببراءة غير بريئة أيضا حين قال لا باس نحن نقوم بالاستثمارات الكبيرة وليقم الآخرين بالمشاريع الصغيرة، حقا إنها قسمة ضيزى، الفقراء المنكوبين الذين بعرقهم وجهدهم بل ودمائهم وفروا لنا جميعا يعض الحياة وبعض فرص الاستثمار المتاحة ليبحثوا عمن يوفر لهم المشاريع الكبيرة ، أما نحن جلساء نجوم الرفاهية فدعونا ننكب على المشاريع الكبيرة بالتعاون مع كل من هب ودب نحصد الأرباح حصدا، هل يمكن أن يعقل ذلك؟؟؟ ثم أليس من بديهيات الاقتصاد الرأسمالي أن المشاريع الكبيرة تأكل المشاريع الصغيرةن بل وهل بلغت وفرة الاستثمارات المتاحة حدا يسمح لنا بهذا التبديد للتمويل الاستثماري هذا إن وجد؟؟؟؟؟

كل تقارير البتك الدولي الأخيرة تشير يشكل قاطع أن الاقتصاد الفلسطيني لا يمكن له أن يتقدم قي أنملة إلا إذا تم حل المشاكل السياسية مع الاحتلال، ومع ذلك نصر على تبديد المال والجهد على مثل هذا المؤتمر الذي في النهاية أقل ما يقال عنه أن عملية ما يسمى بالسلام هي حية وجارية وهي في الحقيقة لا تتجاوز أن تكون عملية ابتلاع حقيقية للشجر والحجر قبل البشر تحت أعين وبصر إبداعنا الاستثماري الرهيب، ألا يحق للمواطن بعد كل ذلك أن يتساءل هل هذا الذي جرى مؤتمر للتثمير أم منتجع للتطبيع ؟؟
كتبت في 30/7/2008

هناك تعليقان (2):

  1. لو وُجدَ من يمثّل هؤلاء الفقراء تمثيلاً حقيقياً فعلياً لا شكلياً، في حزب سياسي لا يسعى للصراع على السلطة بل لحل مشكلة نهب أموال المشاريع الصغيرة وتقليصها لصالح الأثرياء،

    لو وجد هذا الحزب .. لأحدث تغييراً في حياة الفقراء

    لكنه غير موجود، أحزاب اليسار الفلسطينية الآن لا تضع على رأس أولوياتها حل مشكلة الفقير في فلسطين


    أححيك دكتور ،، لأخذك هذا الهم على عاتقك

    ردحذف
  2. تحياتي عماد

    سررت بزيارتك وتعليقك

    أتفق معك في ما قلت
    ولكن السؤال على عاتق من تقع مسؤولية بناء اليسار الملتزم؟؟

    أجتهد وأجيب المثقفون الملتزمون خاصة من الشباب هم عقل اليسار والمقهورون الواعون وخاصة الشباب هم قوة اليسار، ومن المنطق أن تكون البداية من عقل اليسار

    في فلسطين لدينا أكثر من وحهة نظر يسارية

    على عقل اليسار المكون من المثقفين الملتزمين باليسار وخاصة الشباب أن يختار البداية من إحدى وجهات النظر اليسارية أو أن يطرح وجهة نظر جديدة رغم أن الواقع يشير أن الساحة ليست بحاجة لذلك فهي مليئة بوجهات النظر اليسارية المتعددة

    السائد حاليا بين المثقفين الملتزمين هو حالة النكوص والابتعاد تحت تاثير الإحباط تارة وتحت تاثير عدم الاستعداد لتحمل استحقاق المرحلة

    وهكذا طل العقل اليساري بلا تجديد
    وبالتالي تآكلت قوة اليسار

    المطلوب أن نبدأ

    أعتز برأيك
    مع التقدير والحب

    ردحذف